من صندوق التراث العربي : مثل وعِبْرَة
From the Arab Heritage Storybook : a proverb
بين ثنايا التاريخ العربي العريق قصص وعِبَرْ بعضها سطره لنا القرآن الكريم ، وآخر جاء فيمن ثبت صدقه وصحته في كتب السِيَّرْ والتراجم ، وهُنالك ما جاء في هيئة قول أو حكمة يتم الاستدلال بها على العِبرة والعِظة التي حدثت لصاحب القصة الأصلية في القديم؛ وذلك بمحاكاة قصة الماضي في حدث الحاضر الواقعي.
فلما لا نُلقي نظرة ثاقِبة بإمعان في صندوق تُراثنا العربي نقتطِف مِنهُ شيئًا يسيرًا من أمثالٍ كثيرة تنبض بها حِكايات أدبنا الشعبي ؟!.
خذ الحكمة من أفواه المجانين:
كان هناك رجل ثري جدًا ، عاش مُتغربًا عن بلده للعمل؛ وقد توفاه الله في أحد الأيام في غربته ، فوصل خبر وفاته إلى أولاده الذين حزنوا على وفاة والدهم ، فقرر الابن الأكبر فتح باب العزاء ولكن إخوتِه طالبوا بالميراث قبل فتح باب العزاء ، فطلب منهم الانتظار حتى ينتهي العزاء خوفًا من كلام الناس لكنه فشل بذلك ، وقد ذهب الإخوة بعد ذلك إلى القاضي يشكون أخاهم ؛ فأرسل القاضي في طلب الأخ الكبير.
فكر الأخ الكبير في استشارة أحد العقلاء قبل الذهاب إلى القاضي ، فقال له الحكيم : " اذهب إلى فلان فإنه لن يفتيك وسوف يعطيك الحل شخص غيره سأدُلُكَّ عليه" ، فقال له الابن الأكبر : "لكن هذا الرجل مجنون ، فكيف سيقوم بحل مشكلة عجز عن حلها العقلاء ؟!" ، فقال له الحكيم : " لا تخف ؛ اذهب إليه فَلديهِ ما تريده".
ذهب الابن إلى المجنون ، وروى له ما حدث ، فقال له المجنون : "قل لِاخوانك : هل لديكم من يشهد على موت أبينا ؟!" ، فذهب الولد إلى الحكيم وقال له مقولة المجنون ، فما كان من الحكيم إلا أن أثنى على قول المجنون وقال لـ بقية الإخوة : "هل لديكم شهود ؟" ، فرد الأبناء : " إن أبانا قد مات في بلد بعيد وليس لدينا شهود على ذلك " ، فطلب منهم القاضي إحضار الشهود ، فما كان من القضية التي رفعوها إلى القاضي شكايةً عن أخوهم الأكبر إلى أن أُغلِقَت على تلك الحال ولو أنهم صبروا حتى يتم العزاء لكان ذلك خيرًا لهم وأقوم ، ثم انتشر المثل بعد ذلك "خُذ الحكمة من أفواه المجانين" للدلالة على أن الحكمة قد تأتي ممن لا تتوقعه من البشر.
لا ليه في الثور ولا ليه في الطحين :
يُحكى أنهُ في قديم الزمان عندكمّا ان يمُّرْ الشارع المِصري بأوقات عصيبة كَـ تِلك التي مرَّت أيام الشدِّة المُستنصِريّة (وهي إحدى فترات المجاعة الشديدة التي حدثت أثناء حُكم العُبيديين لمِصرْ) ، فَكان يُعانِي غالبية الناس من ضِيق الحال والتقشُفْ والجفاف ؛ وفي هذه الأثناء كان يلجأ الفقراء إلى مطاحِنْ القمح حتى يعطِفْ عليهم الأغنياء وأصحاب المطاحِنْ ؛ فيأخُذوا قليلًا من الطحين لِيسدوا بِهِ جوع أُسَرِهِم وأبنائِهم.
وكانت الطواحين آنذاك تجرُّها الثيران الكبيرة لقدرتها الهائِلة على تحمُل طحن القمح طِوال فترة النهار ؛ ولكنَّ أصحاب المطاحِن والأغنياء عندما كانوا يُضيقون ذرعًا بإلحاح الفقراء يطردوهم قائلين : اذهبوا فأنتم لا لكم في الثور ولا في الطحين (أيّ ليس لكم علاقة بعمل الثور ، وليس لديكم الحق في أخذ الطحين لأنكم لستم أغنياء فلا فائدة ستجرِي عليكُمْ مِنْ وقوفُكُم هُنا).
حِسبة بُرما:
وفي أحد الأيام أثناء ذِهاب السيدة إلى السوق اصطدمت بِها درَّاجة لأحد الأشخاص مِمَا أدى إلى إختلال توازنها وسقوطهِا مع البيض الذي تحمِلُه أرضًا ، فأخذَتْ تبكي السيدة على مالِها الذي ضاع هباءًا ، وتجمَّع المارَّة من حولِها وأخذوا يُخففون من هول الكارِثة عليها ويعِدوها بالحل بعد أن تهدأ أولًا ؛ فأخذ الناس يسألون السيدة عن عدد البيض الموجود بالسلّة حتى يستطيعون حِساب خَسارتِها ، فقالت لهم : إذا أحصيتموه بالثلاثة تتبقى بيضة ، وإذا أحصيتموه بالأربعة تتبقى بيضة ، وإذا أحصيتموه بالخمسة تتبقى بيضة ، وإذا أحصيتموه بالستة تتبقى بيضة ، وإذا أحصيتموه بالسبعة فَلن يتبقى شئ.
رجعتُ بخفيّ كخفيّ حُنين :
كان هناك رجُلًا يُدعى حُنين يعمل صانِعًا ومُصلِحًا لِلأحذية بالعراق ؛ وقد كان مشهورًا بِحِرَّفيَّتِه الشديدة في مجالِه ، وقد مرَّ من أمام دُكانِه أعرابيٌّ على بعيره ؛ ومِنْ ثمَّ أناخَ الأعرابيّ بعيره ، ودخل دُكَّان حُنين يسألُهُ ويستفسر عنْ بِضاعتِه ؛ وقد بدأ يسأل حُنين عن أحد الأحذية التي أعجبته ؛ وأخذ يُجَادِلْ و يُساوِمْ حول سعر الحِذاء كأنه يُريد أن يشتريه ؛ وبعد طول جدال اتفق الأعرابيّ مع حُنين على سعر مُعين ؛ ومِنْ ثمَّ تركَ الأعرابيّ الدُكَّان ولم يأخذ الحِذاء ولم يشتريه ولمْ يُعِرْ أيّ اهتمام لِـحُنين ، فَـ غَضِبَ حُنين نتيجة لِذلك غضبًا شديدًا لأن هذا الأعرابيّ عطَّله عن عمله وأخذ الكثير من وقتِه وصرفَ عنهُ الكثير من زبائِنِه الذين رأّوْه مُنشغِلًا بذلك الأعرابي فانصرفوا عنه ولمْ يَبِعْ حُنين شيئًا في ذلك اليوم.
بدأت خطة حُنين للانتقام من ذلك الأعرابيّ؛ فَـراح يلحق بِه وسلك طريقًا جانِبيًا أسرع من الطريق الذي اتخذّهُ الأعرابِيّ بحيث أنهُ قد أصبح أمامِه بمسافة كافية؛ فقام حُنينْ بوضع أحد الخُفين اللذيّن قد نالا إعجاب الأعرابيّ على الطريق؛ وبعد مسافة من هذا الخُفّ وضع حُنين الخُفّ الثانِي؛ ومِنْ ثمَّ اختبأ حُنيّن على قارِعَة الطريق يُراقِبْ وصول الأعرابِيّ ، وعندما وصل الأعرابِيّ ووجد الحذاء قال " ما أشبههُ بِخُفيّ حُنين" ، ولكن هذا حذاءٌ واحِدْ فَـلَوْ وجدت زوجُهُ الثانِي لأخذتُه؛ ومِنْ ثمَّ تركَ الأعرابِيّ هذا الخُفّ ، ولما مَشِيَّ قليلًا إلى الأمام وجدَ الخُفَّ الثانِي فأخذهُ معهُ؛ ثُمَّ ترك الأعرابيّ دابتِه وما تحمِلُه من متاع ثم رجع حتى يأخُذ الخُفَّ الأول ، فما لَبِثَ حُنين آنذاك أن أخذَ دابّة الأعرابِيّ وهرب بها ، وعندما عاد الأعرابيّ لَمْ يَجِدْ دابّتهُ في مكانِها ؛ وقد كان عائدًا من سفرٍ طويل مُحملًا بالأغراض والهدايا؛ فاستغرب أهل الحيّ وأسرة ذاك الأعرابيّ عودتِه راجِلًا لا راكِبًا دون أيّ شئ سِوى خُفيّ حُنين؛ وعندما علِمَ أهل الحيّ بِما حلَّ بِذلكَ الأعرابيّ ، قال أحدُهم : عاد بِخُفيّ حُنين؛ فذهبَ قولهُ مثلًا على من لا يصِلْ إلى شئ أو هدف بعد اجتِهاد سنين من العمل الدؤوب.
وافق شنٌ طبقة:
فقالت طبقة لأبيها: أمَّا قولِه: أتحملني أم أحملك ؟ ، فأراد أن يقول: أتُحدِثُنِي أم أُحدِثُكْ حتى يمضي بنا طول الطريق ، وأمّا قولِه: أترى هذا الزرع قد أكلَ أم لا ؟! ، فأراد أن يقول: أبَاعهُ أهلهُ فأكلوا ثمنه أم لا ؟ ، وأمّا قولِه في الميت: أترى صاحبها حيًا أم ميتًا ؟! ، فإنهُ أرادَ أن يقول: أتركَ خَلفَهُ عقبًا يُحيي بِهِ ذِكرَهُ أم لا ، فذهب الرجُلْ إلى شنّ وأخبرَهُ بقول ابنتِه "طبقة"؛ فما كان من شن إلا خطبها وتزوجها؛ ثم حملها إلى أهِله فلمّا عرفوا عن عقلِها ودهائِها صاروا يقولون: وافقَ شنٌ طبقة ؛ وصار قولِهم مثلًا على كل من لاقى نظيرًا يُكافِئهُ في حياتِهْ.
جزاء سنمار:
في سالفِ الزمان حينما كانت القوى العُظْمى في التاريخِ القديم تتمثل في دولتيّ الفُرس والروم ، بدأت قِصتنا هُنالِك في إحدى الإمارات العِراقية حاليًا والتابِعَة لِدولة فارسْ مُسبقًا؛ فَفِي أرض إمارة الحيرة بدأت الحِكاية عبر الحاكِم الذي كان يُلَّقّب بِمَلِكْ العرب آنذاك: النُعمان بن امرئ القيس بن عُمَر اللخمِي؛ حيثُ أنهُ قد أراد النُعمان أن يبني قصرًا لا مثيل له في البناء من قبل ، فيفتخِرْ بِه أمام العرب ويُفاخِرْ بِهِ أمام الفُرس ، عن طريق جعلِهِ مقر إقامة ملك الفرس حينما يأتِي لزيارة الحيرة ، فَوقَع اختيار النُعمان على بناءًا روميًا مُبدِعًا في مجالِهْ يُدْعَى: "سِنمَارْ".
كلَّفَ النُعْمَان سِنمارْ بِبِناء هذا القصر الأعجوبة؛ وقَدْ استغرَقْ سِنمَار 20 سنة كاملة في بِنَاء هذا القصر؛ ومِنْ ثَمَّ أُطْلِق على هذا القصر اسم "الخورنَقْ" ، وكانت الناس تَمُّرْ بالقصر مُتعجِبَّة من شِدَّة حُسنِهِ وبهائِه؛ وبعدِ أن انتهى سِنمَارْ من بِناء القصر جاء النُعمَّان لِيُعايِّنْ البناء؛ فَـطافَ النُعمَان بالقصر واستعرض بِنائِه على أكمل وجه؛ وبعد مُحادثة قصيرة أجراها النُعمان مع سِنمَارْ أمر رِجالِه بإلقائِه من فوق أسوار القصر؛ وبعد أن سَقطَ سِنمار وهو يلفظ أنفاسهُ الأخيرة أخذَ يقول: جزائي لا جزاه اللهُ خيرًا إن النعمان شرًا أبطن ، جزائي رصصتُ بُنيانه عشرين حجةً أتممتها عنهُ فَـ رماني.
هُنالِكَ روايتين أحدُهُما تقول: أن سِنمارْ قال للنُعمان: أما والله لو شئت حين بنيته جعلْتُهُ يدور مع الشمس حيثُ دارت ، فسألهُ النُعمان: إنك لتحسن أن تبني أجمل من هذا ، فقال سِنمار: نعم ، فأمرَ النُعمان بِرَميِّه من فوق أسوار القصر.
أمَّا الرواية الثانية؛ تحكي أنَّ سِنمار قال للنُعمان: إني أعرف موضِعْ آجرة "حجر" لو زالت انقضَّ القصرَ من أساسِه ، فقال له النُعمان: أيعرِفُها أحدٌ غيرك ؟ ، فَأجابَهُ سِنمَارْ: بِـ لا ، قال النُعمان: لأدعنها وما يعرِفُها أحد؛ فأمر رِجالِهْ بإلقاء سِنمَارْ من فوق أسوار القصر فَـ مات ؛ ومِنْ يومِها ضرب الناسُ على القِصة مثلًا بِقولِهم : جزاءُ سِنمَارْ.
جنت على أهلها براقش:
عادت حليمة إلى عادتها القديمة:
على أرجح الأقوال أن حليمة مضرِب المثل هذا ؛ هي زوجة حاتم الطائِي أكثر الرِجال شُهرةً بالكرم حيثُ أنَّ بِهِ يُضرب المثل في الكرم ، أما عن قصة هذا المثل؛ فَـنقول :
تزوج حاتم الطائِي امرأةً اشتهرت بالبُخلْ الشديد تُدعى "حليمة"، فكانت حليمة كُلمَّا أرادت أن تضع سمنًا في الطبخ ارتجفت الملعقة في يدِهَا؛ فـأرادَ زوجُها أن يُعلِمُها الكرم ، فقال لها: إن الأقدمين كانوا يقولون إن المرأة كُلمَّا وضعت مِلْعقَّة من السمن في الطبخ زاد الله بِعُمرِها يومًا ، فأخذت حليمة تزيد من ملاعِق السمن في الطبخ حتى صار طعامُها طيبًا؛ وصارت مِثالًا للكرم والسخاء.
لكن تجري الرياحُ بما لا تشتهي السُفن ، كان لِحليمة ولدًا وحيدًا تُحبه حُبًا جمًا؛ وما لَبِثَ أن مات صغيرها ، فَـجزعت عليه حليمة جزعًا شديدًا حتى تمنَّت حليمة الموت لِتلحق بـابنِها؛ فأخذت حليمة تُقلِلْ من ملاعِق السمن في الطعام حتى يُنقِص الله من عُمُرها أيامًا وتموت لِحاقًا بولدِها؛ حينئِذ أخذ الناس يقولون: عادت حليمة إلى عادتِها القديمة ؛ وصار هذا القول مثلًا يُحتذى بِه.
عُرقوب:
كان عرقوب رجُلًا غنيًا مُقتدِرًا؛ وقد كان له أخٌ فقير يطلُب مُساعِدَتِه باستمرار ، فقال عُرقوب لأخيهِ ذاتَ يوم: إذا اطلعت هذه النخلة (أيّ أثمرَتْ) فَلكَ حِملها ، فلمَّا أخرجت النخلة طلعها آتاهُ أخاه ، فقال لهُ عُرقوب: دعها حتى تصير بلحًا ، فلمّا أبلحَت النخلة آتاه أخاه ، فقال له عُرقوب: دعها حتى تصير "زهوًا" ، فلمّا أزهدت آتاه أخاه ، فقال له عُرقوب: دعها حتى تصير رطبًا ، فلمّا أرطبت آتاه أخاه ، فقال لهُ عُرقوب: دعها حتى تصير تمرًا ، فلمَّا أتمرت قام عُرقوب بِجَذّ النخلة في الليل قبل أن يأتيهِ أخوه في الصباح ، فلمَّا جاء أخوهُ في الصباح لِيأخُذ التمر لم يَجِدْ شيئًا ، ولِهذا أصبح عُرقوبْ ولا يزال مضرِبْ المثل في المُماطلة وخَرْق المواعيد المُبرَمَّة مُسبقًا؛ بالإضافة إلى أنه مَضِرب المَثلْ في الخيانة وعدم الوفاء بالعُهود.
الكلمات المفتاحية (Keywords):
From the Arab Heritage Storybook : a proverb, Take the wisdom from the madmen mouths, Neither the ox nor the flour, Burma’s Calculation, Sanmar, She has lost her family in Baraqish, Halima returned to her old habit, Shank, Arabic Sayings.
من صندوق التراث العربي : مثل وعِبرة ، خذ الحكمة من أفواه المجانين ، لا ليه في الثور ولا ليه في الطحين ، حِسبة بُرما ، رجعتُ بخفيّ كخفيّ حُنين ، وافق شَنُ طبقة ، جزاء سنمار ، جنت على أهلها براقش ، عادت حليمة إلى عادتها القديمة ، عُرْقوب.